U3F1ZWV6ZTUwNjQyODAxODUzODAxX0ZyZWUzMTk0OTg1ODUzNjE2Mw==

كان يا ما كان .. (1)



كان يا ما كان ... (1)


كان يا ما كان .. (1) 

.. عذراً بنيتي فحياتي كلها لا تساوي دمعتك ..

كان يا ما كان .. يا سادة يا كرام .. ولا يحلي الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام .. 


تبدأ حكايتنا مع صاحبي، والذي إعتدت الحديث معه، وكلما قابلته، بادرته بسؤالي المتكرر - انت مين ؟ ويرد عليا، بنفس الإجابة مبتسماً في غير تكبر .. تحمل ابتسامته، كل المشاعر البشرية، علي اختلافها، ولكن دفعة واحدة، الحزن والفرح، السكون والغضب، الطيبة والعنفوان، مشاعر قلما تراها فى وجه واحد، وفي نفس الوقت، وذلك ما كان يثير فضولي، وتساؤلاتي، كلما تقابلنا، ويبدو فى هذه المرة ، أنه كان مثقلاً بالأشجان، أو أنه سئم من كثرة إلحاحي عليه بالسؤال، أو أنه وبكل بساطة، أراد أن يفضفض لصديق، المهم أنه بدأ يتحدث، شوف يا سيدي - صلي علي النبي - أنا راجل بسيط، قبل سنوات طوال، رجوت الله ولداً – وكعادة كل أو معظم الشرقيين، الولد يمتد به الاسم، ويحمل شجرة العائلة – أما البنت فكما تعلمون، فمنذ الجاهلية الأولي تولد لتوأد – ويقولون : وإذا قتلتم بناتكم، فأين تجدون زوجات لأبنائكم ؟؟ 

يقول : ويشاء المولي عز وجل، أن تكون البنت أول النسل، وفرحت بها كثيراً، حتي أنني بكيت، عند أول ضمي وحملي لها .. 

فقد جاءت بعد طول انتظار، سنوات ثلاث، معاناة، مرت ما بين طبيب يصف العلاج، وبين صديق يخفف الحزن، ويصف الصبر دواء، وبين قريب يزيد الألم، بعبارات ملؤها الشماتة، والاستياء. 

ربنا يعوض عليك يا ابني ..

ربنا يعوض عليك يا بنتي ..

وكأن الأمر بأيدينا نحن البشر .. 

ثم كبرت البنت ، وتبعها الولد .. نعم أنعم الله عليا بالولد .. 

ولم أنتظر كثيراً، فبينهما فقط عامان .. 

ولمن لا يعرف، البنت نعمة البيت .. روح وقلب أبيها .. نوارة الدار .. 

وتمر السنوات، ويصير البنت والولد بالجامعة .. وتأتي الرياح بما لا تشتهي السفن .. تعصف بهم الحياة، ويفقد البيت الأم .. رمانة الميزان .. ويختل توزان قارب الحياة .. فلقد فقد إحدي مجدافيه، إن لم يكن كليهما .. 

يقول: وأصبحت الأب والأم .. 

ودعوني أصف، أو أحاول أن أصف، لكم مشاهداً من خلف الكواليس، وأنا أحادث بطل قصتنا، وهو يسرد حكايته، أقول أحاول أن أصف، ولان المشهد يعجز عن إيضاحه أعظم سيناريست، وإن إجتهد، فهذا الرجل، وأنا أحاوره، أو أقول بالمعني العامي الدارج (انكشه)، حتي أنعش له الذاكرة، يسكت كل فترة هنيهة، وهو يسترسل في سرد الحكاية، فتارة يجز علي شفتيه، وكأنه يلملم سنوات ندم مبعثرة، وتارة يومئ برأسه، وكأنما يشير لأحد بالإيجاب أو الموافقة، وتارة ترتسم علي شفتيه، إبتسامة حزن غامضة، وكأنها لوحة الموناليزا، وتارة تلمع عيناه بدمعات، يحاول جاهداً ألا تجاوز أجفانه. 

ثم من حين إلي آخر، تجده ينتقل في السرد، إنتقالات غير متوقعة، كأنما يغير بها الموضوع، أو يخفي بها ذكريات موجعة، سوف تؤلمه ، إذا استرسل في خط القصة الزمني. 
ورغم بساطته، أجدني محتاراً في تحليل شخصية هذا الرجل، هل هو إنسان عادي؟ – رجل بسيط، كما قدم نفسه في بداية الحكاية، أم هو فيلسوف؟ درس، وتبحر في شتي العلوم الإنسانية، حتي أصبح له نظرياته، وأفكاره الخاصة، أم لكبر سنه أدرك من الحكمة، والتجارب الحياتية، والإنسانية الكثير .. أصدقكم القول - لستي أدري، ولكن لننتظر آخر الحكاية، لربما يبوح هو طواعية عن أسراره، ومكنون نفسه، دونما عناء منا أو أسئلة.

نعود لبطل قصتنا يقول : 

فلنبدأ مع البنت، وذلك التسلسل المنطقي، ولكن من أين أبدأ ؟ هل أبدأ وهي في سن العاشرة ؟ أم وهي لم تتجاوز الثمانية عشرة عاماً ؟ أم من بعيد قليلاً ؟ وهي لم تتجاوز بعد الثلاث سنوات من عمرها، وهي تجلس في حجري، وتطوقها يداي، وتملئ صدري وقلبي، على صغر حجمها .. 

مشهد خارجي ليلي :

كلكم رأيتم هذا المشهد المتكرر من قبل، مشهد خاطب يلبس خطيبته خاتم الخطوبة، نعم هذا هو المشهد، وهو لفرط حداثة سنه، وقلة تجاربه، ولأنها أول مرة في عمره، يضع خاتما في إصبع أحداهن، ولفرط سعادته يسقط الخاتم من يده، وسط ضحكات أصحابه، وصحيباتها، والبعض يضحك، ويصفر في أجواء تملؤها الإثارة، وكأننا نشاهد نهائي مباراة كرة قدم، وصاحبنا يسبح في عرقه محرجاً، وقد أحمرت وجنتاه من الخجل، وهو يمسك يدها لأول مرة، محاولاً العثور علي الإصبع الصحيح، وقد ذاكر المشهد، وحفظه وتخيله آلاف المرات، ولكن لفرط قلقه، نسي أين يضع الخاتم، وفي إي يد لابد أن يكون؟ وللؤم خطيبته، أو ربماً حتي لا أظلمها، ربما لأنها هي الأخرى خجلي من أن يمسك يدها، علي مرائي ومسمع من أبويها، وكل الحضور، مرتبكه مثله، ولا تقدم له يدا المساعدة، بل علي العكس، تعطيه يدها بارتعاشه، تضيف إلي ارتباكه ارتباكا. 

وينقذ الموقف صديق عزيز، أو ربما أخ أكبر، يرشده إلي الإصبع الصحيح، ويخرجه من دوامة الحرج، وينهي عذابه الحلو، وهو يتنقل من يد إلي يد، ويتحسس كل الأصابع، بعدما أفاق من لذته، ودخل طور الاستعباط - نعم أعجبته اللعبة - وككل الأحبة، أراد أن يطيل وقتها، فهي لا تتكرر مرتين، أو هكذا كان يظن، وتعلو الزغاريد، وتنتهي اللحظات الرائعة في حياة كلاً منهما. 

عفوا استطردت في السرد، حتي أنكم تظنون أنني ابتعدت عن قصتنا الأصلية . 

أعود إلي ابنتي ذات الثلاث سنوات، وأربط لكم الجمل والكلمات .. 

ابنتي في حجري، وملئ صدري وقلبي، وأنا أخرج كيسأ باللون الأحمر، مرسوم عليه خاتما ذهبياً .. 
نعم توقعكم صحيح، وهو كذلك .. 

أخرجت الخاتم، وبرفق وحنان منقطعي النظير، أمسكت كفها الصغير، وتحسست أصابعها النونو محاولاً أن أجد الإصبع المناسب، وعلى عكس المشهد السابق مشهد الخاطب، أبحث عن الإصبع المناسب، وليس الصحيح أبحث عن إصبع يناسب حجم الخاتم، فأنا حينما أسرعت إلي الجوهرجي، لم أكن مخططاً لذلك، ساقتني مشاعر الفرح والحب، فلم أعرف مقاس أصبعها، ولا حجم يدها، ولكن كل همي حسن الاختيار، فهو للحبيبة الغالية - ولا أدري أهو العقل الباطن لكل الآباء ؟ يحركهم دونما تخطيط مسبق، ويدخلهم في تحدي، ومسابقة مبكرة جداً مع من سيخطف قلب إبنتهم، ويستحوذ علي عقلها وكيانها، ويحرمهم من كل ذلك – أقول والوقت مبكر جداً، فهي لا تزال بنت الثلاث سنوات – تحدي من نوع فريد - من يضع في يدها أول قطعة ذهبية في عمرها كله - فهل فكرت أي فتاة من قبل في ذلك ؟؟ – لا أعتقد .. ولكن هذا هو الحب .. يخشي المحب فقدان الحبيب، حتي ولو بعد حين .. 

فما بالكم بحب الأب، وهو لا يقارن بأي حب .. تصغر في حضرته كل المشاعر، والأحاسيس الإنسانية .

ولو عليا أنا، لوضعت الكون كله في فص ماسي في الخاتم الذي ألبسته لها .. 

.. عذراً بنيتي، فحياتي كلها لا تساوي دمعتك ..

.. يتبع إن شاء الله فللقصة بقية ..

************************


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة